رسالة تشاد لأمريكا- تحذير أم مناورة لتعديل الشروط والتحالفات الأمنية؟

في تطور مفاجئ، تلقت الولايات المتحدة الأمريكية في الثامن عشر من شهر أبريل/ نيسان الجاري، رسالة رسمية اللهجة من حكومة تشاد، عبر وسائل إعلام أمريكية مرموقة مثل "سي إن إن" و"بلومبيرغ" وغيرها، تُلوّح فيها بإمكانية فسخ الاتفاقية التي تسمح بتواجد القوات الأمريكية على الأراضي التشادية، مُعللةً ذلك بعدم وجود أساس قانوني مُحكم لهذا الوجود.
تضمنت الرسالة، المؤرخة بتاريخ الرابع من أبريل/ نيسان، توجيهًا حازمًا من قائد القوات الجوية التشادية إلى الملحق العسكري الأمريكي المتواجد في نجامينا، حيث طالبه بوقف فوري لكافة الأنشطة الأمريكية داخل قاعدة "كوسي" الجوية، وذلك لعدم تقديم الجانب الأمريكي "المستندات الضرورية التي تبرر استمرار تواجدهم" على حد تعبير الرسالة.
وعلى الرغم من عدم وجود أي تصريح رسمي صادر عن الحكومة التشادية حتى الآن، إلا أن المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية قد أقرّ بوجود اتفاق بين الطرفين على أن الفترة التي تعقب الانتخابات الرئاسية التشادية المقبلة، والمزمع عقدها في السادس من مايو/ أيار، ستكون بمثابة فرصة سانحة لإجراء مراجعة شاملة للتعاون الأمني القائم بين البلدين.
مع أن عدد الجنود الأمريكيين المتمركزين في هذه القاعدة يُعتبر محدودًا نسبيًا، حيث لا يتجاوز المائة جندي، إلا أن هذا الإعلان المفاجئ يثير جملة من التساؤلات الهامة حول التوقيت والدوافع الكامنة وراءه، وما إذا كان يمثل انحسارًا للنفوذ الأمريكي في المنطقة. كما يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة العلاقة المعقدة بين واشنطن وتشاد، المستعمرة الفرنسية السابقة التي تلعب دورًا محوريًا في الحفاظ على مصالح باريس في منطقة وسط أفريقيا والساحل الأفريقي، وهل تحظى تشاد بنفس الأهمية بالنسبة لواشنطن، كما هو الحال بالنسبة لباريس؟
توقيت وأسباب القرار
يمكن التأكيد على أن هذا الإعلان، الذي لم يتم تأكيده رسميًا من قبل الجانب التشادي، قد صدر في توقيت بالغ الحساسية، وذلك لعدة اعتبارات:
- أولاً: يأتي هذا الإعلان بعد أقل من شهر على القرار الذي اتخذه المجلس العسكري في دولة النيجر المجاورة بشكل منفرد، بإنهاء الاتفاقية الأمنية المبرمة مع واشنطن، ومطالبتها بسحب قواتها من البلاد، معتبرًا أن الاتفاقية الموقعة في عام 2012 مجحفة بحقوق النيجر. وقد اتخذ الطرفان خطوات عملية ملموسة في هذا الاتجاه، تمثلت في قرار واشنطن بإرسال وفد رفيع المستوى إلى النيجر؛ لوضع الترتيبات اللازمة لانسحاب القوات الأمريكية، بالتزامن مع وصول "فيلق أفريقيا" الروسي، الذي سيتولى مهمة دعم النيجر بشكل علني، وكذلك دعم بقية الدول الأفريقية التي أبدت استياءها من السياسات الغربية.
- ثانيًا: يأتي هذا الإعلان بعد فترة وجيزة من الزيارة التي قام بها رئيس المجلس الانتقالي "العسكري" في تشاد، محمد إدريس ديبي، إلى العاصمة الروسية موسكو، التي تسعى جاهدة لأن تصبح البديل الأمثل للغرب والولايات المتحدة في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة وسط أفريقيا والساحل الأفريقي على وجه الخصوص. كما يأتي في أعقاب تقارير متواترة عن رغبة كل من: مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في تشكيل تحالف دفاعي جديد مع روسيا، بديلاً عن تحالف دول الساحل "G-5" الذي يهدف إلى مكافحة الإرهاب في المنطقة، والذي يضم أيضًا تشاد وموريتانيا. وبالتالي، فإن نجامينا قد تميل إلى تفضيل البديل الروسي، والانضمام إلى هذا التحالف الوليد بدلاً من التحالف الغربي – الأمريكي.
- ثالثًا: يأتي هذا الإعلان قبل ثلاثة أسابيع فقط من الانتخابات الرئاسية التي يخوضها ديبي الابن؛ بهدف إنهاء المرحلة الانتقالية في البلاد، والتي بدأت بوفاة والده قبل ثلاثة أعوام. كما يأتي بعد فترة قصيرة من نشر تقارير إعلامية ومراقبين في شهر فبراير/شباط الماضي، تفيد بأن واشنطن تسعى للإطاحة به، من خلال حليفها رئيس الوزراء المعين حديثًا نجاح ماسرا، وذلك عبر عقد بعض رجال ماسرا محادثات سرية في قاعدة "تمنهنت" العسكرية في ليبيا، مع قادة بعض الجماعات التشادية المتمردة مثل: "CCMSR" و"FACT"، وأن واشنطن تعتزم تزويد هذه الجماعات المتمردة بالأسلحة اللازمة للإطاحة بالرئيس الحالي. وهو ما يعني أنه في حال صدقت هذه الرواية، فإن ديبي يسعى لإفشال هذه المخططات من خلال إصدار هذا الإعلان، عبر قائد القوات الجوية، لتوجيه رسالة واضحة إلى واشنطن مفادها الكف عن هذه المحاولات.
أهمية تشاد للولايات المتحدة
تحتل تشاد موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية، ليس بالنسبة لفرنسا فحسب، بل بالنسبة للولايات المتحدة أيضًا، فهي تقع "بجوار ليبيا والسودان" اللتين تشهدان صراعات داخلية مستمرة منذ فترة طويلة؛ مما يجعلهما بيئة مواتية لتحرك الجماعات المسلحة عبر الحدود. فضلاً عن كونها جزءًا لا يتجزأ من العمليات الفرنسية والأوروبية لمواجهة الجماعات المسلحة في منطقة الساحل من خلال عملية "برخان"، وعضويتها الفاعلة في مجموعة "G-5" التي تضمها بجانب كل من: موريتانيا، مالي، بوركينافاسو، النيجر.
وقد ازدادت هذه الأهمية بشكل ملحوظ بعد انسحاب الدول الثلاث الأخيرة منها؛ بسبب التوترات المتصاعدة في العلاقات مع فرنسا على خلفية الانقلابات العسكرية التي شهدتها. وبالتالي، لم يتبق سوى تشاد وموريتانيا، وفي ظل الدور المحدود الذي تلعبه الأخيرة، فضلاً عن موقعها الجغرافي في أقصى غرب القارة، فقد أصبحت تشاد فاعلًا أساسيًا في مواجهة الإرهاب، سواء بالنسبة لفرنسا، أو لواشنطن التي تتواجد قواتها في جزء من القاعدة الفرنسية في نجامينا.
تتمتع وحدة مكافحة الإرهاب في تشاد، والمكونة من 11 ألف جندي، بسمعة ممتازة في هذا المجال. وبحسب مقال نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" في العام الماضي، فقد أرسلت تشاد 1400 جندي لمحاربة الجماعات الجهادية في شمال مالي، و1800 جندي للقيام بعمليات على الحدود الثلاثية المضطربة عند تقاطع بوركينا فاسو، والنيجر، ومالي، ولديها 1100 جندي يقاتلون "بوكو حرام" وتنظيم "الدولة" في غرب أفريقيا حول بحيرة تشاد، كما تلاحق في أحيان أخرى المسلحين في نيجيريا، والنيجر.
ومن زاوية أخرى، فإن موقع تشاد المحوري بجوار دول تشهد نفوذًا روسيًا متزايدًا، مثل: أفريقيا الوسطى، مالي والنيجر، فضلًا عن بوركينا فاسو، قد أكسبها اهتمامًا مضاعفًا، خاصة بعد تشكيل موسكو "الفيلق الأفريقي" كبديل لقوات "فاغنر" في أوائل العام الماضي، وعزم موسكو نشر نحو 50 ألفًا من عناصره في أفريقيا، وتعزيز تواجدها في البلدان التي تنتشر فيها، وتكثيف التعاون العسكري والاقتصادي مع دول القارة، وخاصة دول الساحل والصحراء.
التعاون العسكريّ مع واشنطن
انطلاقًا من هذه الأسباب، سعت واشنطن منذ عهد الرئيس الراحل إدريس ديبي الأب، إلى تعزيز التعاون مع نجامينا في مجال مكافحة الإرهاب في المنطقة، عبر تعزيز القدرات العسكرية للجيش والقوات الخاصة العاملة في هذا المجال. وبحسب المتحدثة باسم القيادة الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم"، فإن العلاقات الأمنية مع تشاد تهدف إلى زيادة قدراتها في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وإضفاء الطابع المهني على قواتها العسكرية عبر رفع قدراتها القتالية واللوجستية، وزيادة استعدادها للمشاركة بفاعلية في حفظ السلام.
ويتمركز جنود القوات الخاصة الأمريكية في نجامينا؛ لتقديم المشورة للقوة الإقليمية التي تقاتل "بوكو حرام" وتنظيمَي "القاعدة"، و"الدولة". وحتى وفاة ديبي الأب في عام 2021، قامت هذه القوات بتدريب القوات التشادية الخاصة بتكلفة تقدر بعشرات الملايين من الدولارات منذ عام 2015، كما زوّد البنتاغون الجيش بشاحنات تويوتا لاند كروزر الصغيرة والدروع الواقية من الرصاص.
كيف تقاربت أميركا مع ديبي الابن؟
مع وصول ديبي الابن إلى سدة الحكم، عملت واشنطن على التقارب معه من خلال حزمة من الإجراءات، للسير على خطى والده:
- تجنب توصيف ما حدث في تشاد بعد رحيل ديبي الأب بالانقلاب. فعلى الرغم من أن دستور البلاد يمنح رئيس البرلمان صلاحية خلافة الرئيس في حال حدوث أمر طارئ، إلا أن إدارة بايدن اختارت عدم توصيف استيلاء ديبي الابن على السلطة بالانقلاب؛ بحجة أن رئيس البرلمان قد تنحى طواعية. وذلك لأن توصيف ما حدث بالانقلاب كان سيؤدي وفقًا للقوانين الأمريكية إلى القطع التلقائي للمساعدات الأمنية، كما حدث في حالات انقلابات: مالي، وبوركينا فاسو، وغينيا. وهو ما يعني أن واشنطن تعطي الأولوية للاعتبارات الأمنية والمصالح الخاصة على فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
- إظهار واشنطن دعمها الكامل لديبي الابن ضد أية محاولات للإطاحة به. ففي وقت سابق من عام 2023، تبادلت الولايات المتحدة معلومات استخباراتية مع تشاد، تفيد بأن موسكو تسعى من خلال قوات "فاغنر"، إلى زعزعة الاستقرار والتخطيط لاغتيال ديبي، في محاولة واضحة لتوسيع نفوذها لدى القادة العسكريين في العديد من البلدان المجاورة.
- السماح لديبي بالمشاركة في قمة أميركا-أفريقيا على الرغم من أحداث العنف التي شهدتها البلاد في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2022، وعلى الرغم من المطالبات بضرورة تقديم المسؤولين عن هذه الأحداث للمحاسبة أمام القضاء.
- عدم الضغط على المجلس العسكري لتسليم السلطة للمدنيين في الموعد المحدد بعد 18 شهرًا "يفترض انتهاؤها في أكتوبر/تشرين الأول 2022″، والاكتفاء بدعوة المجلس العسكري إلى احترام الجدول الزمني للانتقال الديمقراطي. صحيح أنها أعلنت عدم أهلية قادة هذا المجلس للترشح للانتخابات، لكنها لم تترجم ذلك إلى خطوات عملية ملموسة.
وكانت النتيجة المباشرة لذلك، محافظة ديبي الابن على موقف والده المؤيد للغرب، واستمر في إرسال الآلاف من قوات بلاده لمحاربة التنظيمات المسلحة في مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر.
هل تنقلب تشاد على واشنطن؟
من الواضح أن تشاد لن تنقلب بسهولة على واشنطن؛ وذلك لحاجتها الماسة للدعم الأمريكي، إلا إذا كانت هناك اتفاقات سرية مبرمة بينها وبين روسيا "قد تظهر للعلن قريبًا"، بما قد يجعل موسكو بديلاً مقبولاً لواشنطن في تشاد. ففي تعليقه العام الماضي على الأوضاع في الإقليم ودول الجوار، أكد الفريق عبد الرحمن يوسف مري، قائد وحدة مكافحة الإرهاب في البلاد، أن بلاده في أمس الحاجة إلى الدعم، وليس إلى الانسحاب الأمريكي.
وقد تزايدت هذه الحاجة التشادية بشكل ملحوظ بعد الحرب الأهلية التي يشهدها السودان منذ العام الماضي، وتدفق آلاف اللاجئين عبر الحدود إلى تشاد المجاورة. وفي هذا الصدد، أكد مري قائلًا: "لا يمكننا أن نفعل هذا بمفردنا... نحن بحاجة ماسة إلى مساعدة الولايات المتحدة؛ من أجل الحفاظ على السلام على طول الحدود التشادية، ومنع المشاكل المتفاقمة في السودان من الانتشار غربًا."
وفي المقابل، نجد أن واشنطن في حاجة ماسة أيضًا إلى تشاد؛ لمواجهة الآثار المحتملة للحرب في السودان على مصالحها الحيوية في المنطقة. فبحسب وثيقة صادرة عن مجلس الأمن الدولي في العام الماضي، فإن تنظيمَي "القاعدة" و"الدولة الإسلامية" يقومان باستخدام السودان "كقاعدة لوجستية ومالية" للقيام بعمليات في جميع أنحاء أفريقيا، بما في ذلك نقل المقاتلين إلى جنوب ليبيا، ومالي، وغرب أفريقيا.
كما أن واشنطن بحاجة إلى تشاد كأداة فعالة لمواجهة العنف المتفشي في المنطقة منذ الانقلابات العسكرية الثمانية التي شهدتها منذ عام 2020. فمنذ انقلابات كل من: مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، انتشر العنف في هذه الدول بنسبة 38% تقريبًا في العام الماضي.
وبناءً على ما سبق، يبدو أن تشاد أرادت من خلال هذا الإعلان الأخير "شبه الرسمي" توجيه رسالة قوية اللهجة إلى واشنطن؛ لمنعها من التدخل في الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتخلي عن دعم رئيس الوزراء نجاح ماسرا، فضلاً عن رغبتها في تحسين شروط الاتفاقية الأمنية القائمة، بما يحد من التغلغل الأمريكي في الشؤون الداخلية للبلاد. ويبدو أن هذه هي بمثابة الإنذار الأولي الذي وجهته تشاد إلى واشنطن، والذي عليها إما الانصياع له، أو الاستعداد للطرد لصالح الدب الروسي الذي يبدو جاهزًا تمامًا للتدخل، على غرار ما حدث في دولة النيجر المجاورة.
